غزة تفرض إرادتها

أن يبلغ العدوان الصهيوني الإرهابي على غزة مابلغه من وحشية لم يستطع حتى الغرب المتصهين تجاهلها، أقلّه من المنظور الإنساني، مع استمراره سياسياً في تبرئة الكيان الصهيوني من دم ضحاياه، وتحميل الفلسطينيين مسؤولية مايرتكبه بحقهم من مجازر لم يشهد التاريخ مثيلاً لفظاعتها، فهذا أمر لم يفاجىء الشعب الفلسطيني المقاوم، ولا هو استطاع أن يكسر إرادة صموده ومقاومته. فقد دأب هذا الشعب العربي الذي يأبى الخنوع والاستسلام، كما تنبئ سيرة كفاحه الوطني الحافلة بالمآثر والأماثيل، على دفع أثمان غالية من دماء أبنائه وأرواحهم أطفالاً ونساءً، شيباً وشباباً، منذ اغتصاب فلسطين قبل ستة وستين عاماً. وعلّمته تجارب الصراع المسلح مع العدو، أن فاتورة الدم والدمار التي يدفعها ترتفع وتزداد مع تزايد قدراته الردعية على صد العدوانات الصهيونية وإفشال أهدافها.
وغزة اليوم دفعت مجدداً هذه الفاتورة، وبطريقة أكثر قسوة وإيلاماً، فلا أقل من أن يعادل مكسبها السياسي إنجازاتها الميدانية، ولاسيما الإنجاز الصاروخي الذي حطّم معنويات الصهاينة، وقض مضاجعهم، رغم أنوف الإنكاريين، من «عرب إسرائيل» الذين فاجأهم صمود غزة، وأرعبتهم هزيمة سيدهم الصهيوني. لا أقل من رفع الحصار عن غزة، وتحرير أسراها، وضمان حقها في الدفاع عن نفسها. وأمّا غير ذلك من مساع ومبادرات لوقف العدوان، وكأن شيئاً لم يكن، فمحاولات مكشوفة لإنقاذ «إسرائيل» من المأزق الاستراتيجي الذي أوقعتها فيه حساباتها الخاطئة وغطرستها العمياء، وتآمر مقنّع لإجهاض النصر الاستراتيجي الذي حققته غزة، وماهي إلاّ ساعة صبر حتى يؤتي أُكله السياسي.
لا أحد يجادل في ضرورة وقف العدوان الصهيوني فوراً، فهذا مايريده الفلسطينيون المكتوون بناره قبل غيرهم، لكن لأهل غزة، وبفضل معجزة الصمود والمقاومة التي اجترحوها وأسقطوا بها هيبة الردع الاسرائيلي الى غير رجعة، كامل الحق في إجبار الكيان الصهيوني على تلبية مطالبهم الإنسانية والسياسية العادلة، وليس شروطهم كما يزعم العدو والرجعية العربية التي تدور في فلكه، فبهذا فقط يقطفون ثمرة تضحياتهم، وإلاّ فقدت هذه التضحيات معناها ومبررها الأخلاقي، وأصبحت ضرباً من ضروب الممارسة العبثية. وهذا بالضبط هدف الكيان الصهيوني ومن يذرفون دموع التماسيح على أطفال غزة ونسائها وشيوخها من رعاته وحلفائه وخدّامه، لأنه يكرس الفكرة التي طالما حاول الصهاينة زرعها في العقل العربي، ألا وهي أن خيار مقاومته عسكرياً خيار عقيم، بل ضار بأصحابه، ولأنه يُجّرد الفلسطينيين من أمضى أسلحتهم، سلاح الإيمان بذلك الخيار واستخدامه لتحرير فلسطين.
غزة هاشم على قاب قوسين من فرض إرادتها بمقاومتها التي مرغت أنف «اسرائيل» في الوحل. وهذا شعبها الفلسطيني الأبي يؤكد، باستمراره في الصمود والتضحية الى النهاية، أنه لن يساوم على دم أبنائه، ولن يسمح لألاعيب السياسة، أياً كانت هوية لاعبيها، وتحت أي مسمّى مُورست، أن تُجهض إنجازه الميداني الاستراتيجي، مهما اشتدت عليه الضغوط.
بقلم: محمد كنايسي