ميسلون ويقين السوريين ..!

تحضر ميسلون وقد حملت دفاترها مترعة بصفحات إضافية تعيد إلى الذاكرة النبض الذي أشعل يقين السوريين بإرادة الانتصار على مدى السنوات الآفلة، بعد أن أمضت عقوداً من الانتظار على بوابات الذاكرة، وهي تشرع نوافذها للحديث كلما لاحت في الأفق حكاية بطولة، أو ارتسمت على أغلفة الوطن بوادر ملحمة.
ورغم أن العنوان لم يتبدل في الكثير من حروفه، فإن المتغيرات لم تتركه بحاله بعد أن جاءت الأطماع ذاتها، وإن كانت قد غيرت لبوسها أو المفازات التي تحتضنها في منعطفات مفصلية، تتجاوز في قطوعها كل ما سبقها من تحديات، وكل ما اعترض طريقها من مواجهات.‏
في الحالين كان يقين السوريين هو المعيار كما هو الطريق إلى ترسيخ إرادة التحدي والمواجهة رغم فارق الإمكانيات، وأحيانا فارق القدرات الذاتية والموضوعية، وظل هذا اليقين المقياس في عرف التاريخ وحكمته وسطوره وبين صفحاته وهو يحاكي واقعاً عملياً ترجمته مشاهد المواجهة التي يخوضها السوريون على جبهات مفتوحة وفي كل الاتجاهات رغم ما تلونت به وما تخفَّت خلفه.‏
قد لا تكون المقارنة في المشاهد التاريخية قادرة على اختصار أوجه الاختلاف، ولا هي مؤهلة أحياناً لاستيعاب كل التفاصيل الفارقة، لكنها في استحضارها الواقعي تمتلك من الأوراق ما يكفي للحديث باستفاضة عن التداعيات في إطار اليقين ذاته بحكم أن السوريين الذين خبروا على مدى أعوامهم المنصرمة من عمر العدوان والحرب والاستهداف أشكال التجارب ونماذجها المتباينة، فإن النظرة إلى ميسلون ليست باعتبارها حدثاً عابراً، ولا هي محطة استثنائية على ما فيها من تلك الاستثنائية، بقدر ما تقدم مقاربة عملية للإجابة عن الأسئلة التي تشتعل حول عوامل الصمود السوري في وجه أعتى أعاصير الاستهداف والعدوان والتداخلات الكبرى في الأطماع والمصالح والأدوار بطابعها الأدائي المعتاد أو الوظيفي المضاف.‏
في المفارقات القائمة في مشهد السياسة الدولية أن الحسابات والمعادلات تميل بطبيعتها إلى تجاوز المحطات التاريخية والمفصلية، ولا تبدي أي حرج في لغة التشفي منها حين تتوهم أن بمقدورها أن تمحو الذاكرة والوجدان والعبر والدروس من لائحة الاعتبارات، وتمارس حضورها القسري على قاعدة من التعمد في رسم إضافات حصرية على جدول أطماعها الجديدة، وتستمد أغلب عناصرها من صفقات بائدة استفاقت على وقع الإحداثيات التي تتشكل في النظام العالمي السائد بوجهه الأحادي أو بطابعه الاستفرادي.‏
على مدى أربعين شهراً ونيف، كانت سورية وكان السوريون يرسمون من ملامح اليقين بهزيمة العدوان في نهاية المطاف مهما طال, أمد الصمود الأسطوري الطويل، وطريق المجابهة والمواجهة الشرسة والمشتعلة على كل المستويات، وعلى مدى أربعين شهراً أيضاً، كانت حكايات السوريين تستنهض من واقع الحال الجزم بأن ما أفضت إليه سنوات القحط العربي والتصحر القومي على عتبات العجز الذي يجول بلاد العرب، قد أضاف الكثير من المغريات للعودة بلبوس الشعارات والتسميات التي فرضت منطقها قبل قرن إلا قليلاً.‏
وحيث تحضر ميسلون مكاناً أو زماناً.. في التوقيت أو للقياس، يكون للمفاهيم والإرادة واليقين حضور مشابه بل مطابق، وفي بعض الأحيان يتجاوز الأنساق التقليدية المتداولة على خشبة المرافعات السياسية بعد أن تخلع ثوبها الباهت، وأن ترمي إلى غير رجعة كل ما علق بها من نتف ونثرات عابرة.‏
ميسلون ليست فعلاً يتم مرة واحدة، ولا هي ذكرى تضع أوراقها على تخوم الذاكرة، وترحل بعد أن تجتاز عتبة التوقيت، بل إرادة تحفر في وجدان السوريين يقينهم بأن قدر المواجهة يقتضي استنهاض كل عوامل الصمود، ليكون مماثلاً في الإعجاز الجديد لما هو حاضر وموجود بنسخته المأخوذة من ميسلون، فيضيف إليه من صفحات الحاضر، وقد قدم السوريون لوحة صمود، سيفيض التاريخ في الإضاءة عليها حتى وقت آخر، بينما تستفيض مشاهد الحضور الكوني في شرح ذلك اليقين الحاضر في السوريين أبداً.‏
بقلم: علي قاسم