في «ربيع» الإرهاب وخريفه

لأول مرة تجد الولايات المتحدة الأميركية نفسها تنطق الصدق من دون أن تتعمد ذلك أو تتقصده، حين نفت أن تكون في خندق واحد مع سورية ضد داعش، وهذا أمر صحيح لسببين على الأقل، الأول لأن الولايات المتحدة ليست ضد داعش وهي التي رعت تنشئتها وتمددها، سواء كان عبر أدواتها في المنطقة، أم من خلال تعاطيها المباشر معها، والثاني لا يمكن لسورية أن تكون في خندق واحد مع من يرعى الإرهاب ويحمي حاضنيه ومموليه، وهذا من البديهيات.‏

الأكثر من ذلك، لا نعتقد أن هناك من تفاجأ بالحديث الأميركي، وإن كانت هذه ليست القضية، ولا هي المسألة الأكثر إلحاحاً، حيث مكافحة الإرهاب لا تكون باصطناع الخنادق، لأن شتاء الإرهاب غير صيفه، وربيعه المفترض غير خريفه الواقعي، وفي كل الأحوال لا يمكن جمعهما تحت سقف واحد، إذ لا يمكن أن تكون ضد الإرهاب وتتحالف مع داعميه وحاضنيه، وتغض الطرف عن الممولين والمجندين له على مدى ثلاث سنوات ونيف من العمل المتواصل والمباشر، وعقود أخرى من العلاقة مع التنظيمات الإرهابية.‏

ما هو واضح أن لغز التعامل مع داعش لم يعد ذلك الأحجية التي لا تقبل الحل، ولا يمكن فك الطلاسم المشكلة لها، خصوصاً أن الضخ الإعلامي والاستخباراتي والتسريبات المتتالية أماطت اللثام عن كثير مما خفي والقادم قد يكون أعظم، وهذا على الأقل ما تعد به دوائر الاستخبارات الأميركية ونظيرتها الأوروبية وكثير من صحافتهما المرتهنة لمعادلاتهما.‏

من حيث المبدأ، لم يكن أحد يراهن على مبادرة الولايات المتحدة الأميركية للتعامل مع مكافحة الإرهاب بجدية، وحتى بعد صدور القرار الدولي كانت الشكوك تحوم حول النوايا الغربية عموماً، ولاسيما في شكل العلاقة والموقف الذي ستتبناه حيال الدول الداعمة والممولة للإرهاب، حيث بقيت خارج سياق التداول بما يعني عملياً استحالة الحديث عن توافر الأرضية العملية لمكافحة الإرهاب والأهم توافر الإرادة لذلك.‏

ومن حيث المعطيات، بات جلياً أن أميركا ذاتها لن تتوقف عن دعم الإرهاب، بدليل أن وزير خارجيتها كيري أعاد الأسطوانة ذاتها من الحديث الممجوج عن الاستمرار في دعم من يعرفهم جيداً بأنهم جزء من قاعدة الإرهاب إن لم يكونوا رأس الهرم فيه، ويدرك أنه لا يوجد في الدنيا ولا في عرف التاريخ إرهاب مقبول وآخر مرفوض، وليس هناك من هو ضد الإرهاب ويشبك أذرعه ومصالحه مع الإرهاب، ويعوّل في تحقيق أطماعه على ما ينتج عنه من مفرزات وتداعيات.‏

لكن هذا لا يعني أننا أمام جمود أميركي في التعاطي مع التطورات، بقدر ما تبرز محاولة مناورة جديدة لتضفي على المشهد العالمي المزيد من الإثارة، في حين تشكل المعارك المفتعلة مع داعش والغبار الإعلامي والسياسي والاستخباراتي غطاء يوفر ممراً آمناً للأميركي للانتقال من ضفة إلى أخرى أو من فصل لآخر.‏

فكل ما تُقدم عليه واشنطن، حتى عندما تريد أن تعترف، لا يشي ببوادر التجرد من الماضي وما علق به، وأن الاستدراك الأميركي ليس أكثر من تدوير للزوايا، ويعكس تشعبا إضافياً في المهام الأميركية وتعدد الأذرع في السياسة والإعلام والدبلوماسية لتغطية الجبهات التي تتعاطى معها في آن معاً، وهي التي استدعت استنفاراً في أجهزتها وأدواتها على كل المستويات من أجل إعادة ربط الخيوط التي أفلتت من يدها دون سابق إنذار.‏

والمفارقة في الطرح الأميركي أن عورة كذبها بدت فاضحة، حيث لا يكاد المشهد ينتقل من هنا حتى تتشكل هناك جملة من المعطيات التي تميط اللثام عن مرحلة إضافية من النفاق الغربي، وتحديداً حينما يتصل الأمر بمكافحة الإرهاب، إذ تحضر مباشرة محاولات تبرئة الذمة أمام الشعوب الغربية، التي بدأت تتلمس مخاطر ما أقدمت عليه حكوماتها، وفي المقدمة الولايات المتحدة الأميركية.‏

في تفاصيل ربيع الإرهاب وخريفه تتضح معالم الشيطنة في السياسة الغربية وتميط اللثام عن عورات أرذل العمر لدى ساستها، وتكاد تكون المعادلة في نهاية المطاف واحدة لجهة الإدراك المسبق للحصيلة، حيث شعار مكافحة الإرهاب لا يعني المباشرة، والقرار الأممي لا يفضي بالضرورة إلى البدء بخطوات عملية، بقدر ما يشكل مناكفات إضافية على الأجندة الأميركية التي أملت تحولات في الميدان، واقتضت تعرجات في السياسة.‏

وفي الخنادق -كما في المتاريس- لا تزال الإدارة الأميركية تتعامل مع الإرهاب بدوره الوظيفي المكمل لدور الأدوات ووظائفها الدائمة أو المستجدة، وخلاف ذلك لا يخرج عن كونه عنصراً إضافياً من عناصر التورية الأميركية على رقعة المواجهة العالمية التي يشكل الإرهاب فيها بيدقاً أساسياً مخفياً، دفعت به التطورات ليكون على المكشوف في اللعبة الأميركية الجائرة بحق الشعوب والدول، وبحق المنطقة والعالم.‏

بقلم: علي قاسم