الشهيدان كنان ويامن هلال ودعا حجارة البيت ووجهة القلب سياج الوطن

اللاذقية-سانا
عندما احتدمت الحرب الكونية على سورية وهب أبناؤها لتطهيرها من رجس الإرهاب الذي تغلغل في شرايينها كالسرطان أدركت أجمل الأمهات منى هلال أن ولديها كنان ويامن نزيه هلال لن يعودا إلى حضنها إلا بالنصر أو الشهادة وهذا ما كان فقد بذل الشابان زهرة عمرهما كرمى لتراب الوطن فإذ بهما أمثولة عشق وفداء شأنهما في ذلك شأن كل الابطال الذين ودعوا حجارة البيت ليصطفوا كالصخور الكأداء في وجه اعداء الله والانسانية.
تهز الام رأسها مؤكدة أنها لم تفاجأ باستشهاد أي منهما فقد كانت تعلم علم اليقين أن ابنيها اللذين ربتهما كما قالت “كل شبر بندر” لن يخونا ميثاقيهما ويخرجا عن عرف الاخلاق الذي زين طفولتهما وشبابهما فقد ربت ابناءها على حب سرمدي لكل ذرة تراب في هذه الارض الطيبة بدءا من قريتهما “برابشبو” في ريف اللاذقية امتدادا إلى أقصى شبر من أرض سورية ولذلك لم تنتظر منهما إلا التفاني المطلق في واجبهما الوطني المقدس ليكونا مرآة نقية تعكس التربية الصالحة التي نشأ عليها كل منهما وإلا فستكون سنوات عمرها قد ذهبت سدى.
وبين دمعة وابتسامة تترقرق ذكريات اجمل الامهات وهي تقول: “لا أدري أي منهما كان أكثر حماسة واندفاعا إلى سياج الوطن فكلاهما رضع الحليب ذاته وتوضأ وجدانه كل لحظة بالوصايا المقدسة نفسها فكان سلوكه وفكره وقناعاته يوم بدأت الحرب الإرهابية على سورية أشبه بصلاة لا تقبل تراتيلها شيئا من التأويل وكنت أدرك أنهما سيردان الجميل للأرض التي احتملت شقاوة طفولتهما واحتضنت امنيات شبابهما بلا تردد”.
وتتابع.. “يامن وكنان كانا فلذات كبدي وزهرة روحي التي ذبلت باكرا .. وهما خفق الروح في صدري ومحط الآمال في حياتي التي عشتها وأنا أربيهم على التقوى والفضيلة وأن حب الأوطان من الايمان بل هو أعلى درجات الايمان ولذلك ترخص الروح يوم ينادي الوطن أبناءه وقد رخصت فعلا فلم أحزن بل رفعت رأسي عاليا وأنا أرى كل منهما يصدق بوعده ويجسد ما علمته إياه في الصغر”.
وتوضح أن كنان وهو من مواليد العام 1985 كان قد التحق بصفوف القوات المسلحة بعد أن طلب للاحتياط ليستشهد برصاص قناص أثناء تأديته مهمة في الجامع الكبير في حلب بعد شهر واحد فقط وتحديدا في الأول من تشرين الأول العام 2012 أما الشهيد يامن وهو من مواليد عام 1983 ضابط فقد تنقل في العديد من المناطق الساخنة من محافظة دمشق لمواجهة الارهابيين قبل أن يستشهد في القلمون في السادس والعشرين من شهر نيسان عام 2013 تاركا وراءه زوجة وولدين توءم صبي وبنت.
وتنظر الأم بعيدا إلى الافق وهي تتمتم .. لم يكن كنان قد تزوج بعد إلا أنه كان يحلم دائما بوطن آمن يلف أبناءه يوم يعقد العزم على الزواج فلم يكن يتخيل ان زمن الأمن والسلم في وطنه قد ولى بدخول هذه القوى التكفيرية إلى شعابه بل كان يدرك عميقا أن سورية هي ام عظيمة لأبناء ابطال سيخلصون لها ويعيدون أيامها الجميلة إلى سابق عهدها وهكذا كان.
أما يامن كما تقول فقد أوصاها في آخر زيارة له بوالده وولديه وقد اكثر من التوصية ربما لانه عرف دائما إن الأبطال العاشقين قلما يعودون بل ربما يأبون العودة ليبقى كل منهم مثالا يقتدى ودربا تحث إلى مسارها الخطى وفعلا لم يعد يامن مرة ثانية ولم يقبل توءمه الصغير من جديد ولم احظ بعناق كان يعدني به كل وداع فقد استشهد بعد سفره بواحد وعشرين يوما فلم يبق لي اليوم إلا شاب وحيد أحلم ويحلم معي بأن يثأر لأخويه ولكل شباب سورية الذي لم يكتمل إزهاره فإن شاء الله ان يستشهد فستكون منزلة أكثر رفعة لكلينا.
ولأن الرجال لا يبكون جهارا فقد كانت كلمات نزيه هلال والد الشهيدين اكثر سخونة من كل دمع الارض وهو يسرد سيرة حياته بعبارات متقطعة قائلا.. أعمل يوميا في الارض منذ بزوغ الفجر وحتى ساعات النهار الأخيرة.. هكذا أمضيت عمري.. تعبت وشقيت وبذلت نفسي لأقدم لأبنائي كل ما يريدون وعندما رأيتهم أمامي شبابا كالورود وغدوا الهواء الذي اتنفسه اختطفتهم يد الغدر والإجرام.
ويتابع.. “أذكر جيدا أن يامن راح يردد لدى سماعه بنبأ استشهاد أخيه كنان .. لقد وجب لهذه الشهادة أن تكون لي.. فهنيأ لك يا كنان .. انتظرني .. سألحق بك.. بعد ذلك استبسل يامن وصار أكثر اندفاعا فلم يعد في سلوكه أي تأن وتحسب فقد صار الثأر لأخيه ولرفاقه هدفا ومبتغى مؤمنا بأنه في حال استشهاده فإن رفاق السلاح سيتابعون الطريق ويذودون عن الوطن لأن سورية لم تلد إلا رجالا تملؤهم الشجاعة والعنفوان”.
معتصرا رأسه بيديه يقول زافرا.. هكذا بدأت أعد العدة لرحيل يامن فصرت اتصل به يوميا وكان لي أن سمعت صوته لآخر مرة قبل يوم واحد من استشهاده أما يوم ارتقائه فقد بقيت منذ الصباح وحتى الليل اتصل به دون رد وعند العاشرة والنصف ليلا اتصل بنا رقم غريب وكان المتحدث صديق يامن فسألته مباشرة عن صحة ولدي ليجيبني بأن يامن لبى نداء وطنه وربه.
ويردف الأب الموجوع.. ألمي العميق لفقدان كنان ويامن لم يحل دون شعوري المزهو بالفخر وأنا أستقبل المباركين بشهادتهم ممن يتداولون سيرتهم العطرة بالاخلاق النبيلة والمكارم الواسعة ليزيدوا من رفعتهم ومن مكانتهم العالية في الافئدة.. لقد رفعوا رأسي عاليا في حياتهما وزادوها سموا في شهادتهما فأي سخاء ذاك الذي يفوق عطاء فرسان ارتقوا إلى العلا لينعم الآخرون بالطمأنينة والسلام والسيادة على أرضهم.

رنا رفعت