حروب الهويات الممزقة..!

بالتأكيد يمكن للبعض اعتبار أن “سبب اشتعال المنطقة كلها هو قناعة الجميع بحتمية التسويات وبالتالي وضع كل المواقف والأوراق على الطاولة”، فهذا اعتبار له سنده ومبرراته المنطقية والتاريخية، لكن بالتأكيد لم يحن بعد، ولن يحن قريباً، وقت النوم على الحرير، فالمؤامرة، وهي لم تعد كذلك لأنها معلنة ومعروفة، ما زالت مستمرة، والدليل أن أحداً لم يتراجع بعد عن مواقفه التصعيدية، بل لم يأمر أتباعه حتى بالتخفيف من إجرامهم، رغم هول نتائجها ووحشيتها، وليست “داعش”، المدعومة مالياً وتسليحياً وإعلامياً ومخابراتياً من جهات معروفة للقاصي والداني، إلا مثالاً على ذلك.
وجه الالتباس الذي يفرض على البعض التبشير باقتراب النهاية أنهم لم يألفوا سابقاً مثل هذه الحروب، فهي من نمط جديد بمعنى ما، وذلك، أن القوى العدوانية الكبرى، وتحديداً واشنطن، انتقلت، بوعي وتخطيط، من “مرحلة الحروب التي تستند على دوافع أيديولوجية أو جيوسياسية، إلى حروب تستند بشكل أساسي على دوافع تتعلق بالهوية”، ودون الدخول في نقاط الافتراق أو الالتقاء بين هذين النوعين، إلا أن ما يعنينا هو حقيقتان، الأولى أنها حروب لا تكلف واشنطن رجالاً ولا مالاً، والثانية أن أحداً لا يمكنه التنبؤ بنهايتها أو مستوى ارتفاع أوارها أو مدى امتداد لهيبها، فهي “إقصائية إلغائية للآخر” بالكامل، وبالتالي تصبح فرص النجاة منها للجميع، المخطط والمنفذ والمعتدى عليه، بمنزلة الرجم بالغيب لا أكثر ولا أقل.
أما الدلائل على دخولنا عصر حروب الهويات، فمن الممكن، نظرياً، تحديد بداية لها بتبشير “فوكوياما” بصراع الحضارات، وعملياً من تقسيم واشنطن للعراق، بعد احتلاله، على أساس مذهبي وعرقي، كما بتبشير قادة عرب بصراع آت بين هلالين مذهبيين في المنطقة، ليسهموا، مع سبق الإصرار والترصد، في حرف البوصلة عن الصراع العربي-الصهيوني، وصولاً إلى دور وسائل الإعلام “العرب صهيونية” المستمر في إحياء قضايا خلافية ماضية وإثارة نزعات تقسيميّة تفتيتية كامنة، والتركيز المشبوه على تصوير العدوان الإسرائيلي الجديد، بأنه لمواجهة فصيل واحد بهوية مذهبية معينة، وليس عدواناً “إسرائيلياً” فاجراً على الإنسان الفلسطيني كإنسان أولاً وقبل كل صبغة عرقية أو دينية ثانياً.
وبهذا الإطار يمكن لنا فهم “توحش” الحرب العدوانية التي تشن على سورية باعتبارها الحاجز الطبيعي المانع، بتاريخها السياسي والاجتماعي والثقافي المندمج وليس المتعايش كما يروج البعض، لحروب الهويات وتصادمها، كما يمكن لنا فهم الإعلان عن خطة “البنتاغون” الجديدة “لبرنامج تدريب عسكري مصغّر” لعناصر من المعارضة “المعتدلة” باعتباره يصب في هذا الاتجاه، فمن أين سيجد “البنتاغون” عناصره “المعتدلة” بعد أن نعى أوباما وجودهم، إذاً طوبى للمتطرفين فلهم ملكوت البنتاغون وحروب الهويات التي يقودها!، كما يمكن أيضاً القول، بكل ثقة، إن بعض أسباب دعم واشنطن للإخوان “المسلمين”، أو جنوحها للتسوية مع بعض أطراف محور المقاومة في المنطقة يأتي في السياق ذاته، أي كيف يمكن عزل بعض أسباب الصدام المباشر معهم، تمهيداً لوضعهم، هوياتياً وليس سياسياً، في مواجهة الهويات الأخرى في المنطقة.
بيد أن المواجهة ممكنة، وليس كل ما يخطط له الغرب قدر لا فكاك منه، فمن جهة هناك حقيقة بدأ الغرب يعترف بها مؤخراً، وقد حذّرت منها القيادة السورية منذ البداية، وهي أن اللعب بنار “الهويات”، نتيجته المنطقية والحتمية انتشار الإرهاب، الذي لن يوفر أحداً من “مكرماته”، ومن جهة أخرى هناك رجال في الميدان والسياسة يجترحون، يومياً، سبل المواجهة الناجعة لخطط الغرب وتدابيره.
إذاً، هذا تحدٍّ هائل، يحتاج لمواجهة على القدر ذاته، وبالتالي قد يكون هناك في المستقبل المنظور تسوية ما، هنا أو هناك، ولكنها ستبقى مجرد هدنة بين حربين، وسيبقى الصراع مستمراً وخاسراً، ما لم نقرر، كمجموع، جعل تنوّعنا نعمة لا نقمة.
بقلم: أحمد حسن