الباحث الياس بولاد: تاريخ دمشق هو تاريخ المنطقة برمتها

دمشق-سانا

نبه الباحث التاريخي الياس بولاد إلى ضرورة العودة إلى التاريخ والإلمام بتفاصيله واستخلاص العبر منه لكي نفهم جذور الأزمة التي تعصف ببلادنا اليوم ونتحلى بالوعي والإدراك للخروج منها وتجاوز تداعياتها وقطع الطريق على من يشعلون فتيلها وإطالة أمدها بهدف النيل من الإنسان السوري الذي عاش على هذه الأرض منذ آلاف السنين.

وفي حديث لسانا طرح بولاد “إشكالية جهلنا بتاريخنا والعزوف عن قراءة هذا التاريخ وجهلنا بأهمية سورية بشكل عام ومدينة دمشق بشكل خاص فتاريخ دمشق هو تاريخ المنطقة برمتها” مشيرا إلى أن واضعي المناهج المدرسية وخصوصا كتب التاريخ ركزوا على أسماء وحضارات ومواقع وحروب لاعلاقة لنا بها بينما تجاهلوا الحديث عن الاقتصاد وأطماع الدول الكبرى والحديث عن تاريخ مدينتنا الحقيقي ووجهها الحضاري الذي هو نتاج تراكم الحضارات وتجاربها والانفتاح على العالم حولها.

وإضافة إلى الإلمام بالتاريخ والتركيز على الدراما الواعية دعا بولاد إلى تأمين فرص عمل للشباب وتشجيعهم على تعلم المهن اليدوية التي اشتهرت بها دمشق لكي يعدلوا عن الهجرة ويقفوا في وجه المخططات الغربية التي تهدف الى التهجير والتخريب النفسي والاجتماعي.

وطالب بالمحافظة على البيوت الدمشقية التراثية وعدم تحويلها إلى مطاعم وفنادق وملاه لما لها من أهمية في إظهار الوجه الحضاري والتاريخي لمدينة دمشق القديمة داعيا إلى تفريغ المدينة وإعادة المهن إليها والاستفادة من الخانات التي أصبحت مستودعات للبضائع.

وركز الباحث بولاد في مقدمة كتاب ترجمه من الفرنسية إلى العربية تحت عنوان “تاريخ الفنون والصناعات الدمشقية” من تأليف توفيق بولاد على ضرورة دراسة الحوادث التي شهدتها بيروت ودمشق عام 1860 بتعمق من الناحيتين الاقتصادية والسياسية مشيرا إلى أن معظم الكتب التي تناولت تلك الأحداث قامت بعرض الفتن والمذابح بتفاصيلها اليومية من الناحية الدينية فقط حيث لم يتعرض أحد لأسبابها الخارجية الحقيقية وأبعادها الدولية والاقتصادية.

ورأى أن الأزمة التي تمر بها سورية والمنطقة تعيد إلى الأذهان فتنة عام 1860 في بيروت ودمشق والتي تعتبر مفصلا تاريخيا أساسيا ساهم في صياغة السياسة الخارجية الغربية حتى اليوم وربما لقرون أخرى مايدفع إلى التساؤل عما إذا كانت فتنة دينية أم مؤامرة سياسية دولية.

ووفق كتاب “تاريخ الفنون والصناعات الدمشقية” فإن دمشق كانت المدينة الرئيسية الأولى بمكانتها الاقتصادية في بلاد المشرق وأن منتجاتها الجميلة والثمينة من الأقطان والأقمشة الحريرية والأجواخ التي ينتجها ويصنعها الدمشقيون بكميات كبيرة كانت تصدر عن طريق مرفئها التجاري في صيدا التي تبعد أربعين كيلو مترا عن دمشق وأن فرنسا كانت تستورد كامل الكمية الفائضة من الحرير عن إنتاج الورشات المحلية بدمشق.

وجاء في قاموس الجغرافيا القديمة والحديثة المطبوع في باريس عام 1854م تأليف ميساس وميشلو حول مدينة دمشق “إنها المدينة الأكثر أهمية والتي تأتي في المرتبة الأولى في الصناعة في الشرق كله فقد أعطت اسمها للمنسوجات الحريرية والتي يأتي الغرب للبحث عنها وشرائها كما أنها تتاجر بالأسلحة الفولاذية ذات النصال القاطعة وتتاجر أيضاً بالأصداف وبأنواع متعددة من الحرير وماء الزهر كما تمر بها القوافل إلى حلب وبغداد وتتجمع فيها قوافل الحجاج”.

وأما فرانسوا بيرنو فيقول في كتاب طرق الحرير أن صناعة الحرير في كل من فرنسا والصين أصيبت بكارثة كبيرة في منتصف القرن التاسع عشر بسبب مرض خطير أصاب دودة الحرير فيهما كما أن افتتاح قناة السويس أدى إلى ارتفاع أسعار الحرير المستورد في أسواق أوروبا كلها.

ويستنتج بولاد أن النهضة الصناعية التي شهدتها دمشق كانت تواكب آخر التطورات التقنية الصناعية العالمية في ذلك الوقت موضحا أن نظام الجاكار الميكانيكي كان أول من أدخله إلى دمشق آل بولاد المشهورين بصناعة حرير البولادية وذلك بغية زيادة الإنتاج كما ونوعا وهذه النهضة الصناعية واكبها ازدهار تجاري واقتصادي كبير وتوسيع للأسواق وتصدير الأقمشة الحريرية الدمشقية إلى القدس ومصر وتركيا وإيران وأوروبا وكانت مادة الحرير متوافرة وبأسعار زهيدة وكان لقربها من المعامل والورشات أهمية اقتصادية انعكست على رخص وجودة الإنتاج الدمشقي الذي اكتسب شهرة عالمية وزيادة في الطلب عليه.

ولفت بولاد إلى أن هذه الصناعات وخصوصا الحريرية كانت متمركزة في حي باب توما وحي القيمرية الذي كان يلقب بالهند الصغرى وهما الحيان اللذان استهدفتهما حوادث 1860 في دمشق بالذات.

وفي الغرب شكل المرض الذي أصاب دودة الحرير في فرنسا والصين أزمة كادت تؤدي إلى كارثة اقتصادية حقيقية في هذا القطاع إذا لم يتم تأمين الحرير كمادة أولية لمعاملها علما أن المكان الوحيد الذي توافرت فيه هذه المادة في ذلك الوقت هو لبنان وسورية.

وبمراجعة كتب الرحالة والشعراء الذين زاروا سورية ولبنان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ومنهم الشاعر لامارتين نجد أنهم عبروا عن دهشتهم لتنوع ورخص المنسوجات الحريرية وجودتها وخصوصا في أسواق دمشق.

ومن هذا الواقع التاريخي جاء التخطيط الغربي لحوادث 1860 في بيروت ودمشق وعلى أعلى المستويات السياسية والاقتصادية فرصدت له الميزانيات الضخمة وجرى اعداد سيناريو المذابح والأماكن المقصود تدميرها والجهات المنفذة لها من الغوغاء وضعاف النفوس والمتآمرين عن طريق بث الاشاعات الدينية ولكن المسلمين المتنورين وعوا تلك المؤامرة وحموا اخوانهم المسيحيين.

وعبر بولاد عن أسفه لأن معظم المؤرخين الغربيين والشرقيين لم يدركوا أن الهدف من وراء تلك الحوادث كان تأمين الحصول على الحرير واستهداف الصناعة السورية والقضاء عليها موضحا أنه “لو تم تلافي وقوع تلك الحوادث لكانت سورية اليوم بكل تأكيد دولة صناعية كبرى في مجال المنسوجات وفي مجالات صناعية أخرى لا تقل أهمية عن أي دولة أوروبية”.

ويشير إلى وجود أهداف أخرى كضرب البنية الصناعية التي كان الدمشقيون يحتفظون بها في أحيائهم والقضاء على أمهر الصناعيين والحرفيين وعلى ورشاتهم ومنازلهم وتهجير من تبقى من الصناعيين ممن أحرقت أحياؤهم وبيوتهم وورشات عملهم والذين تجمعوا في قلعة دمشق حيث رتبت القوافل لنقلهم إلى بيروت ثم مصر وكانت كل قافلة تتألف من نحو ثلاثة آلاف شخص.

وجاء في كتاب “بلاد الشام في القرن التاسع عشر” للدكتور سهيل زكار أنه تم إعدام أكثر من مئتي شيخ حارة أو زعيم حارة بعد هذه الحوادث مباشرة وبدون أي محاكمة كما تم إبعاد الكثير من المشاركين في هذه الحوادث إلى تركيا وإلى مدن بعيدة لمدة سنوات ومن الملفت أن الرأس المنفذ للمؤامرة والي دمشق العثماني أحمد باشا قد أعدم مباشرة أيضا وبلا محاكمة وقيل بأن تعيينه واليا على دمشق جاء إثر مساع لإحدى السفارات الأجنبية في اسطنبول كل ذلك حتى يبقى السر مكتوما حول تلك المؤامرة الدولية الكبرى.

كما يعود الباحث بولاد إلى ماحصل في سورية قبل ستمئة عام عندما غزا تيمورلنك دمشق وأخذ ثلاثين ألفا من الأيدي العاملة والحرفيين المهرة إلى سمرقند وخراسان ضمن مخطط لاجتياح المنطقة عندما كانت دمشق تشكل عصب الصناعة من الصين إلى ايطاليا.

وأوضح أن المكون السوري أوصل دمشق إلى القمة في القرن الرابع عشر إذ كانت تضم مئة وخمسين سوقا حسب كتاب “نزهة الرفاق في شرح حال الأسواق” لابن المبرد وكان لكل حارة من حاراتها تنظيم حرفي وإداري وكان فيها 200 حرفة ولكل حارة باب لايستطيع أحد دخولها لمعرفة سر الصناعة فيها وكان يدخل إلى دمشق من أبوابها السبعة قوافل مؤلفة من تسعمئة جمل في كل يوم.

ولأن دمشق القديمة هي جوهرة يجب عدم التفريط بها وعدم محو معالمها ولأنها كنز يجب إبرازه والتباهي به فقد دق الباحث التاريخي الياس بولاد ناقوس الخطر داعيا الوزارات والمؤسسات والهيئات المعنية إلى البدء “قبل فوات الأوان” بالتركيز على الأسس اللازمة للحفاظ على المدينة التاريخية وضرورة دراسة التاريخ بعمق والاستفادة منه وخلق جيل يحب صناعاته وحرفه اليدوية ويتمسك بتراثه الأصيل.

سلوى صالح