رياح السموم

من منا نحن السوريين يستطيع أن يدعي أنه لم يتأثر برياح السموم التي هبت على بلادنا وما زالت تعصف بنا حتى الآن؟ من منا يستطيع أن يعود بذاكرته إلى ما قبل الأحداث من دون أن يتوقف عند ربيع الـ 2011 كمفصل في التاريخ والذاكرة والحياة لكل منا؟ من منا يستطيع أن يعود إلى دوائر علاقاته الصغيرة أو الكبيرة دون أن تترك بنا تلك الرياح الحاقدة ظلالها التي لا يمكن أن تمحى؟ مشتل الأصدقاء الذي كان يجمعنا بين حقول الأدب والإبداع على الحب والأمل هل يمكن لنا أن نعود إليه كما كنا؟ هل يمكن للمعلم الذي كنته أن يعود إلى أحضان درة الفرات الرقة الغالية ويتجول بين أحيائها وحاراتها الحنونة البريئة من دون خوف من أصوات الرصاص الذي لا يسمح لقلبي أن ينام حزناً على أطفالها الحالمين؟ هل يمكن لي أن أعود إلى الرقة الحبيبة لأقف عند ثانوية عمار بن ياسر فأضم إلى صدري التلاميذ الأوفياء؟ ثم أتابع مع إخوتي وأصدقائي الشعراء من أبنائها النبلاء إلى قلعة جعبر فالرصافة فالطبقة ونحن نلقي بقصائد أرواحنا إلى ترابها الطاهر معطرة برحيق تاريخها الخالد؟ كثيرة هي الأسئلة التي تكاد تتكسر على الشفاه الظمأى للأرض السورية التي أقفلت مفارقَ دروبها رياحُ السموم التي لم يسلم منها أحدٌ منا.

الرقة.. يا مدينتي الحبيبة كيف تنامين وأنت مسبية يلفك الظلام بعد أن كنت تشرقين بنور الحضارة والتاريخ والحداثة الصاعدة؟ كيف عبثت بك أيادي الغدر والحقد والتكفير ونحن غافلين وكأننا في حلم مرير؟ كم أتمنى أن أقف على كل عتبة من ديارك وأقبل قناطرها البهية. كم أتمنى أن أعود إلى أحضان أهلي وجيراني في السبخة لأتفقدهم واحداً واحداً وأطمئن عليهم فالرحمة على من استشهد والسلامة لمن حصّن نفسه بالعفة وصان كرامته بالوفاء.

الرقة … منها جاء الصوت قال: كنت واحداً من الذين ثبتوا في المعركة حين هجمت الأفواج كالجراد وبقيت إلى جانب رفاق السلاح نقاوم حتى وجدت نفسي أمشي إلى حيث تقودني خطاي وعندما وصلت إلى مشارف القرية والأعداء يتجولون في كل مكان أومأت لصاحب البيت فجاءني كمن يستجيب لاستغاثتي وقادني إلى منزله فألبسني من ملبسه وقام بواجب الضيافة كما لو أني كنت الضيف الذي يجل ويقدر، وعند الليل أوصلني على دراجته إلى القرب من القرية المجاورة وقال لي اجعل النهر دليلك وامض حيث الراية الحامية ثم ودعني قائلاً: بأمان الله يا بن أخي. وتابعت سيري حيث قال لي فما مررت بقرية وما صادفت أحداً من الأهل إلاّ وحرص عليّ حرصه على ولده حتى وصلت إلى حيث الأمن والأمان. هكذا باختصار حدثني ابن قريتي إياد الذي نجا من رياح السموم تلك وحين روى بالتفصيل عن شهامة أهل الرقة، وحبهم للجيش العربي السوري كنت أشعر بأنني أكاد أخلع العباءة التي دثرتني خلال سنيّ المحنة وأصرخ بأعلى ما أستطيع: هذه هي الرقة العظيمة، هؤلاء هم أهلها الأوفياء، هذا هو شعب سورية الذي قرر أن ينفض عن كاهله ما اعتراه من رياح السموم كي ترحل عن أرضنا إلى غير رجعة.

بقلم: مفيد خنسه