جَميلَـةُ رَفـح

تنحني تحت نواميس الدهشة، لتتنفّسَ عطر التراب، تستقبلُ أعنّةَ الثريات الهابطة من فسحة السماء، لتُسرِجَها على فسحة الروح، تحطّ على كتفيها أعمدة ضبابية فتنحني قامتها الجميلة، ووجهها المعتّق بلون سنبلةٍ توشك على النضوج، يتثنّى جسدها المُثخن بالحزن في ثوبٍ طويلٍ كان موشّى بخيوط زاهية الألوان، قبل أن يُصبح كالحَ السواد، تحمل من «مجدل عسقلان» مآذنها وحواريها ومراكب الصيادين، وأنوال النسّاجين، وفناء دار ما زالت تشكّل في تضاريس ذاكرتها رسماً لشمسٍ وردية قبيل أن تغطس على مدّ البحر في أقصى نداءات الغرب البعيد لتغتسل بمياهه المالحة، وتتطّهر من خطايا نهار طويل، صمتت قبيل غياب شمسه صنوفُ أسلحةٍ قصفت واستهدفت كلّ شيء في مدينة رفح، المدينة صغيرة الحجم والمساحة بمقاييس العالم.

«جميلة» تقيمُ في مكان يشبه كلّ الأمكنة، لكنّه، ولخصوصية ليست مفهومة ولا مفسّرة، طبعَ تفاصيله الدقيقة على كلّ خليّة تسبح في شرايينها، وتتدفق حارّةً في اللحظة المقهورة ذاتها، وهي تعانق صامتةً الرأس النازف بين يديها، وتضمّه إلى صدرها.!
تتشكّل، كما في كلّ مرّة، كما في مواقف عاشتها، تصبحُ امرأة من صخر، تتدفّقُ الدماء وتنزف حولها وتبقى الصورة مستمرّة ما فارقت خيالاتها لحظة.

وجهُهُ مطبوع بتفاصيله الدقيقة على صفحة دماء ساخنة، يرسم على البقعة التي استقبلت رأسه القتيل، خريطةً لبحرٍ وساحل وفضاء.!

هدوء ينتحل براءةَ الرضا، ينبض هادئاً على وجنتيه، وعينان، وأنت تنظر فيهما، لن تجد غير دوائر ودوائر، تتكاثر بسرعة مذهلة، ثم تتكسّر على حوافي جفنيه دون أن تطرف له عين.
أيتها المسكونة بالعجز البريّ، متى تستنهضين همم الأغبياء.؟

ترتجف خطواتها ترقّباً على طرقات الحواري المُتربة، تستقبل لهاث الشهداء، وعذابات الجرحى، وقهر الموجوعين، ووعوداً سخيّة بقطوف النصر.

إحساس غامض، ليس له أيّ تفسير دفعها دفعاً، بعد أن سمعت دوي رشقات من الرصاص الثقيل، لتخرج من البيت حاسرة الرأس، تركض على الطريق الترابي الذي حمل خطوات «محمود» قبل دقائق خارجاً، ماضياً على غير هدى في طرقات رفح المشتعلة، يفتش عن مدى يسعُ غضبه.

بعد المنعطف الثاني، «محمود» يودّع، على دفء حضنها، آخر قطرةٍ من دمه.
بدت الطريق القصيرة إلى بيتها أطول من سفر بعيد.

بعد الأيام الأولى للحرب على غزّة، وبعد أن استنفد سلاح الجوّ (الإسرائيلي) «قفّة» الأهداف، بدا مع بداية الاجتياح البرّي، أن المصير المحتوم سينتهي إلى كل البيوت والدور وهي تتساقط تباعاً.

– جميلة المجدلاوي، سلّمينا أولادك الأربعة نضمن لك حياتهم، وإلا.!
تخرجُ إليهم، ترفع رأسها وتبتسم بسخرية.. ثم تصرّخ: – محكومون بالرعب حتى من الشهداء.!

كثيراً ما مارست على أولادها الأربعة سطوة الرضا، واستحضار «مجدل عسقلان»، روعة المكان الغائب.! هي مجموعة تراكمات أسدلت فوق متاع حياتها ستائر من البؤس والقهر والفقر والقوّة، فماذا بقي لها ولهم غير أن يتساوى حبهم للحياة قدر حبهم للموت.!
في مقبرة رفح، بين خمسة قبور، جميلة تفرش أسمالاً تشبه الفراش، لا تملك من متاع الدنيا كسرة خبز، ولا قميص دثار، ما زالت ترتدي الثوب الأسود الكالح، وخصلتا شعر أبيض كالثلج تتدليان من جانبيّ منديل موشّى بالبياض يغطي رأسها.

تُخرجهم من موتهم، أو تمضي هي إليهم، سيّان.! فقد تلاشى حساب الوقت والمكان، واندثرت تلك الخطوط الفاصلة بين موت وحياة.

تعتني الآن بهم، تتحدثّ إليهم، تسأل كلّ واحد منهم، «زوجها وأولادها الأربعة»، عن تعبه وهمّه وحاجاته، وهم يسبحون في فضّاءِ برزَخٍ هيأ لهم كل مفردات الحرية والشموخ والإباء.

بقلم: عدنان كنفاني

انظر ايضاً

لجنة الانتخابات الرئاسية الإيرانية تعلن انتهاء عملية التصويت وبدء عملية فرز الأصوات

طهران-سانا أعلن المتحدث باسم لجنة الانتخابات الوطنية الإيرانية محسن إسلامي عن انتهاء عملية التصويت، وإغلاق …