غزة في معادلات المربع الأول

تعيد التطورات في غزة الأمور إلى المربع الأول، بعد أن ذهبت تحالفات ما قبل العدوان أدراج الرياح، وبعد أن أذرت خلافات التفاهم على الأدوار الحد الأدنى من نقاط الاتفاق المعمول بها قبل وأثناء وفي ذروة الصقيع العربي، كما هي الحال في حضيضه اليوم.
فأصحاب المبادرات وعرابوها لم يعد الود بينهم هو ذاته، ومحور الأطراف التي كانت تتوازع فيما بينها أدوار الوساطة والضغط على المقاومة لتسويق الشروط الإسرائيلية، أصبحت محاور متنازعة ومتفرقة، ما يصلح هنا لا يجوز هناك.. وما كان يتم بالتراضي بات في عرف العرابين، قديمهم وجديدهم، مجرد أطلال من الماضي السحيق الذي لا أحد يرغب في العودة إليه.‏
الفارق ربما الأكثر حضوراً في هذا السياق، أن محاولات التعويم لهذا الطرف أو ذاك لا تصطدم بالصعوبات الموضوعية بقدر ما هي ناتجة عن عوامل ذاتية داخل التحالف ذاته، وتتعلق بأطراف متعددة، حيث السعودية لا تريد أي عودة لقطر.. ومصر ترفض أن تكون البوابة الجديدة لعودة أردوغان إلى مسرح الأحداث، ما خلق حالة من الفراغ صعّبت من المهمة الأميركية، وباتت عملية الجمع أصعب بكثير من التداعيات القائمة رغم مأساويتها.‏
على تخوم العجز والفشل والخيبة التي أصابت تحالفات الصقيع العربي، تتحرك مختلف خيوط الحسابات والمعادلات، وما كان صالحاً للتداول قبل أشهر بات عسيراً وغير قابل للنقاش اليوم، على قاعدة أن حلفاء الأمس باتوا شركاء في الخلاف أكثر مما هو في الاتفاق.‏
وبالتالي فإن التداعيات ليست من الفشل في إنجاز الهدنة المتفق عليها مسبقاً، ولا في تنفيذ البنود التي كان يتم إعدادها قبل أن تحل فصول العدوان، وبعد يوم أو يومين من العدوان تصبح الأرضية مهيأة لبلورتها أمام الإعلام، وتضاف إليها بعض المشاهد البروتوكولية من اجتماعات ونقاشات ومن ثم تسوقها أطراف الاعتدال العربي، ومن يريد أن يكون في الأضواء يحضر، ومن يريد أن يظل في الكواليس يعود إلى الصفوف الخلفية.‏
المعايرة اليوم تبدو مختلفة، والخلافات المضمرة أو المخبأة تتفجر على خلفية النزاع الجدي على المحاصصة في الأدوار الوظيفية، التي تستدرج بالضرورة مهمات وصلت إلى حدود المصيرية لأي تسويق في شروط العدوان أكثر مما تتبنى وجهة نظر المقاومة، ولا يخفى على أحد كيف تكون المبادرات حاضرة في مطابخ الاستخبارات وأجهزة المتابعة الأميركية، ولا تحتاج لأكثر من بضع ساعات حتى تظهر للعلن، وهي التي تحتاج في ظروف العدوان ومتغيراته والتطورات غير المحسوبة إلى أشهر، وربما لأكثر من ذلك.‏
المعادلة الوظيفية التي كانت مقياساً في الماضي باتت تشكل اليوم علامة فارقة مختلفة الاتجاه والحساب، وغزة التي كانت دائما ضحية تلك الأدوار الوظيفية عادت لتعلي صوتها خارج حساباتهم، وأبعد من قدرات الدول الوظيفية ومن ارتهن بموقعه ليكون تابعاً وظيفياً من الدرجة المتأخرة، وغزة التي تقاتل هي غيرها التي اعتاد البعض على التفاوض باسمها، وغزة التي تضحي وتصمد هي غيرها التي يراد لها أن تكون جسراً لتعويم ما يستحيل بعد اليوم تعويمه.‏
غزة أدركت بحسها المقاوم وبنبض إرادة الصمود لدى أهلها أنها لم تعد صالحة للتداول على موائد التفاوض، ولا تقبل أن تعود إلى التبازر باسم دماء أبنائها، ولا للمتاجرة بوجودها ووجود المقاومين فيها.‏
غزة عرفت بحسها المقاوم وبنبض إرادة الصمود لديها الطريق إلى خلط الأوراق، وعرفت كيف تجترع من التجربة الفارق بين من كان مع العدو عليها ومن كان على العدو معها، وهي التي خبرت على مدى أعوام الصقيع العربي الوظائف التي استجدت والأدوار التي برزت لتكون السكين الأخير في ظهرها، كما أتقنت وبالتجربة حدود المتاح والممكن، وكيف يتحول إلى أوراق قوة بالإرادة وبصدق من وقف إلى جانبها.. بالفعل والقول والعمل.. في السياسة والإعلام والسلاح الذي قلب المعادلة وأعاد الأمور إلى بديهياتها الأولى.. والمسلمات إلى أبجديات الموقف منها.‏
بقلم : علي قاسم