الجرن الحجري وسيلة لاستحضار التراث ونبض الواقع الريفي

حماة-سانا

امتاز جرن الحنطة على مر القرون الماضية بأهميته لدى المرأة الريفية الجبلية فهو الأداة التي استخدمتها في إعداد وجبتها اليومية البسيطة واليوم رغم تخلي الكثير من ربات البيوت عنه في مطابخهم العصرية إلا أنه ما زال يشكل وسيلة لاستحضار التراث نبض الواقع الاجتماعي الريفي بما يقدمه من طبخات شعبية متوارثة لها نكهتها الخاصة التي لا يمكن لأي أداة حديثة من المطبخ العصري أن تنافسه أو تحل محله.

وفي كل عام تظهر أهمية هذا الجرن الحجري مع بداية فصل الشتاء وبخاصة في شهر كانون الأول حيث تحتفل العديد من المناطق الجبلية بمناسبات شعبية وتشكل فيها الأكلات التي تعد في هذا الجرن “كالقمحية والسليقة والهريسة” إحدى طقوسها التي لا يكتمل الاحتفال بقدوم الشتاء بدونها.

ويقول العم يوسف سليمان “أبو حسن” من أهالي مصياف “إنه كان للجرن الحجري حتى بداية فترة السبعينات من القرن الماضي مكانة خاصة في كل منزل من منطقتنا حيث يوضع في مكان بارز وسط الدار للدلالة على كرم الأسرة وجودها لكونها تسمح للأسر الفقيرة الحال في تلك الفترة والتي لا تقوى على امتلاكه من استخدامه فهو كان من المؤشرات التي تدل على يسر حال الأسرة في تلك الفترة حتى أن النسوة كن يتفاخرن بامتلاكهن جرنا حجريا من الصوان وأذكر جيدا اننا في منزلنا كن نمتلك جرنا في مدخل دارنا الريفي وأن والدتي كانت تجتمع مع قريباتها في لمة فرح وكن يقمن بتبادل الأدوار في قشر القمح وهن يتبادلن أطراف الحديث”.

ويضيف “يصنع الجرن الحجري من قبل مهرة وصناع متخصصين من صنفين من الصخور أما البازلتية أو الكلسية حيث يتم اختيار صخرة ويتم قطعها بواسطة الإزميل والمطرقة وتسويتها على شكل مكعب ذي ارتفاع يتراوح بين 50 و 75 سم وبعرض وطول يتراوح بين 75 سم والمتر تقريبا، وبعد أن ينتهي الصانع من هذه المرحلة يبدأ بعملية تسوية سطح الجرن وقشطه ليصبح شبه أملس عندها يحدد موقع الجرن في وسط المكعب الصخري وتبدأ عملية نقر الجرن داخل الصخرة بواسطة أزاميل خاصة ذات رؤوس مختلفة ويتم هندسة وتكوير الجرن داخل الصخرة بشكل اسطواني وبعمق يبلغ 25سم وبقطر يبلغ وسطيا 20 سم”.

وبعد أن يفرغ الصانع من أعداد الجرن يبدأ مرحلة جديدة وهي تصميم المدقاق الذي يجب أن يكون ذا رأس وقاعدة تتناسب مع كور الجرن لأن هذا عامل مهم في تحسين أداء الجرن وسهولة العمل به ويقوم الصانع بتصميمه أيضا من نفس نوع حجر الجرن أما كلسي أو بازلتي ويكون ذا شكل أسطواني أو قريب البيضوي فهو يمسك بكلتا قبضتي اليدين ويجب أن يزيد في طوله عن عمق الجرن وأن تكون قاعدته أعرض من رأسه ليستطيع أن يهرس أكبر كمية من القمح وبعد أن يفرغ من تصميم الجرن والمدقاق يتم اختيار موقع بارز في فناء البيت الريفي أو في مدخله اسفل شجرة أو عريش العنب وقرب وعاء مملوء بالماء ليسهل على ربة البيت أو النسوة من الجيران استخدامه.

ورغم بساطة هذا الجرن وبعده عن التعقيد إلا أنه يخفي أسرار أشهى الأكلات وهي “القمحية والسليقة والهريسة” والتي تشترك من حيث المبدأ معا إلا أن لكل منها مكونات وطريقة تحضير مختلفة عن الأخرى.

وتقول السيدة أمال الجداوي ترعرعت في منزل ريفي وتربينا على طهو كافة أكلات القمح المقشور والتي ورثت طريقة أعدادها عن والدتي وحتى اليوم تلاقي هذه الأكلات استحسانا واعجابا من كل أفراد أسرتي وأحرص كل الحرص على إعدادها خلال فترة الشتاء حيث تشتد الحاجة إلى الأكلات المغذية مع شدة البرد في المناطق الجبلية التي تنخفض فيها درجات الحرارة ورغم بساطة مكوناتها لكنها تحتاج إلى جهد في طريقة التحضير وهو ما يجعلها من الأكلات الموسمية التي تقتصر على فصل الشتاء وفي المناسبات.2

وتضيف إن التحضير لهذه الأكلات يبدأ من موسم حصاد القمح حيث نقوم بتخصيص كمية من القمح القاسي تقدر بحدود 20 كيلو وتختلف هذه الكمية من أسرة لأخرى حسب كبر عدد أفراد الأسرة، ثم نقوم بعملية غسل القمح بشرط أن يكون ذا لون ذهبي فاتح ليمنح الأكلة منظرا ذهبيا شهيا وبعد عملية الغسل التي تسمى بالعامية “تصويل” نكيل مقدار ما يعادل 3 كيلو من القمح المغسل الرطب ويوضع في الجرن الحجري بعد أن يتم تنظيفه بشكل جيد وتقوم النسوة بدق القمح داخل الجرن عن طريق المدقاق الحجري برفعه عاليا وضربه على القمح داخل الجرن وهنا تتبادل بعض النسوة ضرب القمح بينما تجتمع نسوة أخريات لتصويل القمح وهن يتجاذبن أطراف الحديث أو تبادل النكت أو سرد القصص القديمة وتقوم إحدى النسوة بتقليب القمح الذي يخرج من الجرن تحت ضغط المدقاق وأعادته إلى داخل الجرن ليعاد ضربه من جديد وتستمر عملية قشر القمح لفترة تتراوح بين 20 و 30 دقيقة لكل جرن وتسمى “ردة” واحدة حسب القوة البدنية وحسب الرغبة وكلما زادت فترة الدق حصلنا على قمح أشهى مذاقا وأسرع نضوجا في عملية الطهو.

وتتابع بعد أن تقشر كامل الكمية يجري فردها فورا على أغطية قماشية في أشعة شمس الصيف لمدة يومين أو ثلاثة أيام حتى يجف القمح بشكل كامل بعدها تتم عملية فصل الحب عن القشرة بعملية التنسيف التي تتم في الهواء وبعد الحصول على القمح يخزن في أوعية خاصة كانت سابقا من الخوابي الفخارية أما اليوم فهي من البلاستيكية والزجاجية ويضاف للقمح الملح الذي يمنع تسوسه خلال فترة الشتاء.

من جانب آخر تشير السيدة ابتهال حمد إلى منطقتنا تشتهر بثلاثة أصناف من أكلات القمح المقشور وهي القمحية والهريسة والسليقة وتختلف من حيث التحضير لكنها تتشابه في المبدأ والقمحية هي الأكلة الأكثر شيوعا وتحتوي على قيمة غذائية عالية جدا وتحضيرها يتم بوضع القمح المقشور في وعاء مليء بالماء يوضع على نار عالية سواء الحطب أو الغاز المنزلي وبعد أن يغلي لفترة نصف ساعة يضاف لها الحمص المنقوع سابقا وتستمر عملية الغلي ما بين ساعة ونصف وساعتين حتى يسمك السائل داخل القدر ويصبح لزجا وما يطلق عليه بالمعنى الشعبي التلوبن “لوبنة القمح” وبعد أن تحضر الأكلة يذاب فيها مقدار معين محدد من السمن الحيواني الطازج أو من زيت الزيتون وتقدم كحساء ساخن.

وتضيف إن طريقة تحضير السليقة تشبه القمحية ولكن تكون غنية أكثر بالحبوب فالبعض يضيف لها الفاصولياء أوالذرة حسب الرغبة وهناك من يفضلها بالقمح والحمص فقط ويفضل الأهالي السليقة في مناسبة عيد البربارة ويمكن للبعض أن يقوم بتحويل السليقة إلى “متبل” عبر خلطها مع اللبن الرائب حيث تبرد في الهواء شتاء أو توضع في الثلاجة صيفا وتقدم باردة.

وتقول بشرى سليمان إن الهريسة لا تختلف كثيرا عن طريقة أعداد القمحية فبعد أن يجري غلي القمح المقشور فقط دون الحمص أو الحبوب الأخرى يضاف له لحم الديك البلدي والذي يمنح الحساء مذاقا خاصا ويترك الحساء لحدود ساعتين على النار حتى يصبح سميكا أكثر من القمحية وينزل عن النار ويقلى بالسمن البلدي أو زيت الزيتون ويقدم ساخنا.

عيسى حمود – سهاد حسن

انظر ايضاً

الجرن الحجري وسيلة لاستحضار التراث ونبض الواقع الريفي